صوت الأمطار الاستوائية
مصحوباً بعزف رقيق على
الناي
و صوت رعد يخترق هذه
الأصوات المداعبة لكل طبقات الأذن البشرية حتى تصل لمراكز الاحساس و تحيط بشغاف
القلب
و لكن ليس هذا هو الحال
مع الرائد أحمد سالم .. لأن هذه الأصوات هي صوت المنبه الذي يوقظه يومياً في تمام
الخامسة صباحاً .. صيفاً و شتاءً .. تكاد هذه الأصوات لا تليق به وهو الانسان
الفوضوي الذي يحدث الجلبة حيثما برز ظله .. إن الرجل لا يهتم بقيافته ولا هندامه
.. يتلقى التنويه تلو الملاحظة مرفقة بالتحذير ازاء هذا الأمر و لكنه لا يكترث ..
لأنه المفضل و المحبوب عند قيادات الأمن في البلد.
فعلى الرغم من هيئته
المهملة و لحيته التي لا يحلقها الا مرة واحدة كل 10 أيام، و بالرغم من أنه يعاني
من مشاكل أسرية أدت لطلاقه مؤخراً و حصول طليقته على حضانة طفليه، و بالاضافة
لكونه لا يلتزم بساعات العمل المحددة له و لا يعرف متى و كيف يتوقف عن بذاءاته ..
لكنه أبرز المحققين في جهاز الأمن السياسي .. عرفته القيادات السياسية و الأمنية
عندما تمكن من تفكيك شبكات لجماعات متطرفة كانت تقوم بتجنيد الشباب و الشابات
للانضمام لجماعات تحمل أفكاراً متطرفة تحارب في شتى أنحاء الأرض، من أرخبيل الملايو
شرقاً إلى مصاب نهر الأمازون شرقاً حتى أصبح مطلوباً لتلك
الجماعات. لَقَبه المدير العام لجهاز الأمن السياسي اللواء محمد رافع بـ
"مُوَحِد الفرقاء" لإجماع كافة الجماعات المتفرقة على وضع اسمه على
قائمة المطلوبين.
استيقظ
في ذلك الصباح البارد من شهر ديسمبر وهو ينظر للتاريخ على هاتفه حين قام بإغلاق
صوت المنبه
-
آه .. آخر أيام هذا
العام؛ بالنسبة لي على الأقل، و من ثم .. إلى إسطنبول
عشق أحمد إسطنبول مذ زارها في أول مرة قبل 15 عاماً، أحب
فيها رائحة البحر و القهوة و السميت الساخن، العرق التركي المميز، اللحم التركي
بكافة أصنافه، و على الأخص اللحم التركي الأشقر.
بعد أن قام من فراشه توجه صوب جهاز التسجيل الضخم الذي
يضعه في منتصف شقته و ضغط زراً أطلق معه العنان للجهاز كي يصدح برائعة الفرنسي
فيفالدي التي تحمل اسم فصل الشتاء، الذي ينظر له لأول مرة لا يكاد يصدق حجم
الثقافة و الحس الفني العالي لديه، و لكن لم يكن ليعير رأي الناس أدنى اهتمام.
بعد انتهائه من الحمام الساخن الذي اعتاد عليه في كل
صباح ارتدى ملابس العمل التي هي عبارة عن سروال جينز و قميص و معطف على طراز معاطف
البيسبول الأميركية، نعم إن أحمد من أشد المعجبين بأبطال Dukes of Hazard.
حين وصل لمديرية الأمن السياسي في تمام ال6:47 صباحاً
أثار انتباهه أنه لم يكن متسللاً للمبنى بصحبة أشعة الشمس التي تتسلل بنعومة
لأرجاء المبنى المستطيل الشكل، إنما كان هناك من تسلل قبله و كانوا من أبرز قيادات
الأمن العام .. العميد صالح مختار، العميد أحمد فتح الدين، العقيد سمير شماس و عدد
من الأفراد و الضباط التابعين لقطاعات مختلفة من الجهاز الأمني. لمح وجه صديقه
عادل مستنداً إلى الحائط في زاوية من زوايا الغرفة فتوجه له مبادراً بالسؤال قبل
السلام
-
ما سر هذا التجمع؟
هل نقلوا نهائي كأس العالم لمبنى المديرية؟
-
كف عن مزاحك فهؤلاء
لا يطيقون هذا النوع من المزح حذار أن يسمعك أحدهم
-
حسناً .. و لكن ما
سر هذه الجلبة؟
-
جاء اتصال من الحرس
الرئاسي قرابة الرابعة فجراً عن شخص يقف قبالة القصر الرئاسي حاملاً لوحة كتب
عليها "فليسقط الإمبراطور"
-
بربك؟ كل هؤلاء من
أجل رجل يحمل لافتة؟ رجل واحد؟
-
لقد دفع الأمن
الرئاسي لحد الجنون حتى الرئيس بنفسه طلب تقريراً عنه بمجرد انتهاء التحقيق، لقد
أوسعوه ضرباً و لم يفتح شفته بحرف واحد، الجمهرة التي تراها الآن هي متابعة للكلب
الوفي لمدير الأمن الرئاسي .. نعم .. العقيد غانم الحسن بنفسه
-
ماذا! غانم! غانم
كلب مسعور في جلسات التحقيق .. هذا جنون .. ولكن الأفظع من ذلك هو جمهور الساديين
المراقب لجلسة التحقيق بشغف بالغ
-
هاهو يخرج ..
فلنتقرب لنرَ نتيجة الحفلة التي أقامها.
يقتربان بحذر كما لو كانا يحاولون الدخول لحفلة بدون
بطاقة دعوة و كلما اقتربا اكثر أحسا بأن غانم ليس الوحش الذي عرفاه، و كأنما هناك
ما كسر كبرياءه .. حينها سمعا العقيد سمير شماس يقول:
-
غانم، ماذا تعني
بقولك أنك قطعت وجنتيه بصفعاتك و شتمته بكل شتيمة تعرفها ولم يرف له جفن؟
-
أقسم لك يا سيدي إن
هذا ما حصل! لقد .. لقد ضربته كما لو أنه هددني أنا شخصياً يا سيدي و لكن عبثاَ!
ظل ثابتاً يحدق بي كما لو أنه أعمى لا يرى شيئاً أمامه و متجرد من الأعصاب فلا يحس
بوقع ضرباتي عليه!
-
هل هددته بقلع
اظافره؟ حرق اطرافه؟ كسر أصابعه؟
-
بل و هددته بحرقه
كلياً يا سيدي، و لكن عبثاً! لم يخبرني حتى بإسمه!
-
إما أنك تضرب صنماً
يا غانم أو أننا يجب أن نحيلك لجهاز آخر يناسب قدراتك الحالية، كجهاز المرور ربما
تلقى غانم هذا الرد الهازء كصفعة تزن 5 أطنان هوت على
غروره و نظر للعقيد شماس نظرة مليئة بالحقد نظراً لأن شماس الذي له نفس رتبة الحسن
لكنه يشغل منصب مدير في الأمن العام أما الحسن فهو مجرد موظف مرموق أعطي الرتبة
لقاء خدماته، و فيما هو ينظر لشماس أحس العميد مختار أن الأمور قد تتطور بين
الديكين فقطع لحظة الصمت بصوته الأجش:
-
أنتما! كفا عن الذي
تفعلناه أياً كان ما تفعلانه، غانم .. اذهب و انهِ تقريرك .. شماس .. تعال معي ..
اللواء رافع اتصل بي و أخبرني أن الوزير طلب أن يتولى هو الإهتمام بهذا الموضوع
شخصياً .. آه .. يبدو بأن الأمن السياسي كان معنا طوال المدة .. عادل و أحمد ..
الـ .. حسناً أنا لا أجد له صفة معينة و لكن .. هو لكما.
و خرج العميد مختار برفقة جوقة الضباط المصاحبة له و معه
العميد فتح الدين ذاهبين لمديرياتهم و نظر أحمد إلى الشخص الجالس عبر النافذة
العاكسة بهدوء و سكينة لا تجدها إلا عند العرفانيين و كهنة التيبت. بادر أحمد لكسر
الصمت الذي أطبق عليه و عادل وهما ينظران لهذا الشخص
-
أنت أم ... ها؟
تظاهر عادل بأنه تلقى مكالمة مستعجلة أجبرته على الذهاب،
كعادته في هذه المواقف.
-
كعادتك أيها المخنث
.. حسناً .. لنرَ ماذا يوجد خلف هذا الباب.
يشير للمسؤول عن الأقفال لكي يفتح الباب، أخذ نفساً
عميقاً المرة تلو المرة وهو ينتظر سماع أزيز الكهرباء وهي تسري في الباب كي تفتح
أقفاله، و حين سمع صوت الأزيز دخل الغرفة الخالية من كل شيء الا طاولة حديدية
عليها أصفاد مثبتة بالطاولة و في ساقيها سلاسل تنتهي لكاحلي الشخص الجالس إلى
الطاولة المثبتة أساساً في الأرض، إن هذه الطاولة أسوأ من زنزانة السجن.
تجول عينا أحمد حول الشخص الجالس أمامه، تدور عيناه في
جميع الزوايا متفحصاً، باحثاً عن شيء ما يثير اهتمامه في هذا الشخص، و لكن عبثاً،
بائت كل محاولاته بالفشل. لا يوجد هناك بتاتاً ما يثير في هذا الشخص.
شعر ناعم خفيف، بشرة شاحبة, عينان لا تنمان عن أي شيء،
عظام الخدين بارزة من وجهه النحيل، أنف طويل ذو أرنبة مدببة، فم عريض ذو شفاه
رقيقة جداً و بالطبع كدمة على الوجنة اليسرى و قطع تحت الجفن الأيمن، هدايا
تذكارية من غانم.
يقوم ببعض الايماءات بأصابعه أمام وجهه .. يغمز له باحدى
عينيه .. و لكن لا يبدو أنه يعيره أي اهتمام
-
حسناً .. لقد قمت
بالتعامل مع ارهابيين من قبل و بالتعامل مع متشددين بل و حتى مع بعض المعاتيه
الذين يؤمنون بأن هناك صوتاً من الفضاء يخبرهم بما عليهم فعله و لكن .. أنت لست
منهم .. خصائصهم كانت مختلفة جداً .. حركاتهم .. حتى نظراتهم كانت مختلفة .. أنت
.. هل تسمعني؟
تحركت عيناه باتجاه أحمد، أمضى بضع لحظات يتفحص وجه أحمد
و من ثم انفرجت شفتاه قائلاً:
-
قهوة
-
ماذا؟ ماذا قلت؟
-
قهوة .. فنجان قهوة
.. و ماء
أثار الطلب استغراب أحمد و لكن فضوله دفعه لطلب فنجان
قهوة أمريكية ساخنة مع كوب ماء و جلس يراقبه وهو يشرب القهوة من يد العسكري بهدوء
و صمت مريبين دون أن ينطق ببنت شفة. ما إن أنهى كوب قهوته حتى حرك لسانه داخل فمه
و كأنه يحاول تحريك شيء ما .. و بعدها بصق على الطاولة مخرجاً ضرساً
-
ربما كان هذا الضرس
هو ما يبحث عنه زميلك، أرجو أن ينال اعجابه
-
دعك منه .. من أنت؟
ان تصرفاتك الغريبة لا تدفعني لأي شيء تجاهك، فلا أريد ضربك .. أو شتمك .. أو حتى
تعذيبك .. أنت غريب جداً .. أريد أن أتعرف عليك .. من أنت؟ اسمك؟ ما اسمك؟
-
هشام
-
هشام؟ هشام فقط؟
هيا .. أخبرني ما اسمك يا .. هشام
-
هشام .. محمد
-
و؟ رقمك القومي؟
-
هشام محمد .. الرقم
القومي 19400-87456
يقوم أحمد بتدوين الرقم و من ثم الضغط على زر النداء و
يسلم العسكري ورقة بها الاسم و الرقم القومي كي يقوم بالبحث عن أي ملفات متعلقة بالمدعو
هشام محمد
-
حسناً يا هشام ..
ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أخبرني؟
بصوت هادئ يقوم بتحريك لسانه حول فمه من الداخل و من ثم
يقوم بلعق لثته
-
ما الذي تفعله أنت
هنا؟
-
لست بمحل لتوجيه
الأسئلة، ما الذي جاء بك الى هنا؟
-
الأمن .. بضعة رجال
ذوي قسمات قاسية و أسلحة كبيرة وضعت بين عيني و من ثم تم بطحي على الأرض و ربط يدي
خلف ظهري و رمي بي في مؤخرة سيارة معتمة و .. رأيت الباقي عندما كنت تحت رحمة
زميلك
-
أقصد .. ما الذي
دفعهم لبطحك أرضاً و رميك في مؤخرة السيارة و الاتيان بك إلى هذا المكان؟ على ما
يبدو أنت لا تعرف ماهو هذا المكان؟
-
لا .. ماهو؟
-
مديرية الأمن
السياسي
-
حسناً .. على الأقل
هي أفضل مما تخيلته
-
و كيف تخيلتها؟
-
مبنى قديم .. مهجور
.. مثل مخزن .. أو مصنع مهجور .. و لكن .. نعم هذا أفضل كثيراً مما تخيلت
في هذه الأثناء يدخل عسكري ليناول الرائد أحمد ورقة تعلوها
بعض الأسطر فقط من دون أي تفاصيل.
يطالع أحمد الورقة، خالية، فقط اسمه و رقمه القومي و
عنوان سكنه، لا يوجد أي سجل له، لا شيء تماماً، حتى لا يوجد أي مخالفة مرور أو
تعثر لقسط أو أي شيء.
-
غريب جداً، أنت
مثال للمواطن الهادئ، أنت تكاد لا تذكر في سجلات الدولة، و فجأةً، تقف أمام القصر
الرئاسي حاملاً؛ لوحدك منفرداً، لافتة تهاجم فيها الرئيس
-
لم أهاجم الرئيس.
-
اذاً هاجمت من؟
-
هاجمت الإمبراطور
-
ولكننا لا نعيش في
إمبراطورية
-
إذاً لمَ أنا هنا؟
-
لأنكَ (يشعر أحمد
بأن ما يقوله غير منطقي) هددت أمن الرئيس
-
أنا لم أتكلم عن
الرئيس
-
إذاً لم حملت
اللافتة؟
-
أعترض على
الإمبراطور، هل هذا شيء يجرمه القانون؟
-
حسناً .. حسناً ..
قبل أن تصيبني بالجنون .. هلا تركنا موضوع الأمن و الذي جاء بك لهذا المكان جانباً
.. ما الذي يحملك على الدعوة لعزل، أو تنحية، أو الانقلاب على من تسميه
الإمبراطور؟
-
الإمبراطور لا يؤمن
بشعبه كبشر
-
و كيف يراهم؟
-
كأشياء .. ممتلكات
.. وسائل ترفيه .. أتعرف الشخصيات التي يضعها الأطفال في بيوت الدمى و يقومون
بتحريكها كيفما أرادوا؟ هكذا يرانا الإمبراطور
-
حديثك يبدو مثيراً
يا هشام، هل درست في الجامعة؟
-
لدي درجة الماجستير
في التاريخ العصور الوسطى و أقوم بتحضير الدكتوراه في أسباب سقوط الدولة العثمانية
-
و ماهي طبيعة عملك؟
-
كنت أعمل في
التدريس بالجامعة و لكنني متفرغ حالياً للتحضير لرسالتي
-
كان بانتظارك
مستقبل لامع في التدريس الجامعي
-
كنت سأكون مزوراً
آخر لا أكثر
-
مزوراً لماذا؟
-
للتاريخ
-
كيف؟
-
كنت لأصف
الامبراطور بما ليس فيه، و أسبغ عليه صفات الآلهة و أنزع عنه كل صفة شريرة ليغدو
ملاكاً بين الشياطين، مُخَلِصاُ للآثمين
-
و هل فعل هذا أحد
من قبلك؟
-
نعم .. الآباء
المؤسسين لهذا الصرح التعليمي العظيم و واضعي لبنات هذا القسم
-
و لكن التاريخ
الحديث، تاريخ نهضتنا أقصد، هو جزء من التاريخ المصور و ليس المنقول، فكيف لهم
تزويره؟
-
بأن تصور ما تريد،
و تنشر الصور التي تريد، واضعاً التعليق الذي تريد، لتعيد تكريره و نشره و توثيقه
كما تريد، إنك بذلك تقصقص عقل البشر كما تريد أنت بالشكل الذي تريد و ترسم داخله و
تكتب و تفعل ما يحلو لك
-
و لكننا نعيش في
بلد حديث فيه دستور و قوانين مبنية على أسس توافق هذا الدستور الذي يكفل للجميع
حرية الرأي، و حرية الرأي يا هشام تعني الاختلاف .. أليس كذلك؟
-
إن هذا لا يعدو
كونه ضحكاً على الذقون، فالقانون و الدستور يكفلان حقي بالتعبير عن رأيي ضد من
أريد و مع من أريد، و لكن في الحقيقة فإن الحكومة تكفل حقي بالتعبير حين يوافق حقي
حقها و تقبل بمعارضتي لها فقط في حال كان صوتي ضعيفاً جداً ولا أستطيع سماع صداه
في كهف فارغ
-
ولكن نحن لدينا حكومة
منتخبة و مجلس تشريعي يحاسب و يراقب و يشرع و في داخل هذا المجلس توجد معارضة
للحكومة
-
عفواً .. معارضة
صنعتها الحكومة
-
كيف؟
-
أنظر للمعارضين
الحاليين، كلهم كانوا في يوم ما في الفريق الآخر و انقلب الحال بهم، أو فلنكن أكثر
صراحةً، انتهى دورهم في اللعبة و لم تعجبهم نهاية خدمتهم فظنوا أنهم يستطيعون
العودة لأحضان المسحوقين، و وحده ربي يعلم بوجود مسحوق يرتدي ساعة قيمتها تقارب
ال25,000 دولار و سيارة تفوق قيمتها ال 120,000 دولار .. لا أعلم أي مسحوق لديه كل
هذه الامكانيات .. و فضلاً عن هذه الامكانيات فإن لديه القدرة على الإحساس .. تخيل
.. الإحساس .. كالآخرين
-
هل أنت من مناصري
الفوضويين إذاً؟ المخربين؟ هل كنتَ من المشاركين في مظاهرات "السنوات
العصيبة"؟
-
لا، بربك، كنت
أحارب على الشبكات الالكترونية كدون كيخوتيه، أحارب الجميع، أخوض حروب الحكومة و
الرئيس، أطعن ذاك و أصد سهم ذاك و أرمي ذاك بكرات النار، ربما لو أنني أسرفت أكثر
بقليل في كراهيتي للمخربين لربما أصبحت مسؤولاً الآن
-
حديثك شيق، رغم أني
لا أستطيع أن أتوصل لأي شيء من خلاله و لكن أخبرني، ما الذي دفعك للتخلي عن ذلك
المعسكر و الدعوة إلى ... إسقاط الإمبراطور؟
-
لأنه تم خداعنا،
بكل بساطة، تم استخدامنا و عصرنا كبرتقال ناضج يستجديك كي تضعه في المعصرة ثم ترمي
بقشره في القمامة
-
و كيف ذلك؟
-
أتذكر عندما تركت
الحكومة المخربين يعيثون فساداً في البلد .. في كل مكان .. في المناطق التجارية ..
في العاصمة .. في أروقة البرلمان .. في الأحياء السكنية .. في كل مكان .. سواء
بالصراخ أو بالكلام البذيء أو بالاعتداء على المباني و البشر على حد سواء دونما أي
تدخل من القوات الأمنية .. تذكر ذلك بالطبع؟
-
أتذكر ذلك جيداً،
كنت ملازماً و أقضي فترة تدريبية في جهاز الحماية الشخصية، و بالفعل كان صمتاً
مريباً و لكن فيما بعد قامت القوات الحكومية بالرد على كل من تسبب في قلقلة الأمن
-
نعم، هذه الأجهزة
.. أو القوات كما أسميتها .. بسكوتها .. خلقت وحشاً تهابه الناس .. يبحثون عن أي
ملجاً منه، و بالطبع لا يوجد ملجأ آمن لهم من أحضان الحكومة .. فأتى الناس ملهوفين
يتعلقون بطوق النجاة الذي رميتموه لهم
-
إذاً فأنت تتهمنا
بأننا خلقنا هذا الرعب؟
-
ليس بالضرورة خلقه
و لكن، فلنقل، استفدتم منه و لم تعالجوه تماماً و وضعتموه تحت السيطرة .. أكاد
أشبه الأمر بـ .. بـ .. بالقدرة على السيطرة على ورم السرطان لجعله يصغر و يكبر و
يضمحل و ينتشر متى ما أردت
-
ولم نفعل ذلك؟ فما
دامت لدينا القدرة على السيطرة عليه فإننا نستطيع القضاء عليه؟ ألا تشعر بأنك ..
لا نقل خَرِف .. فلنقل يجانبك الصواب و تجنح لنظرية المؤامرة قليلاً في هذا
الجانب؟
-
لو كان الخوف من
المجهول هو دافع الناس الوحيد للتمسك بك كطوق نجاة فهل كنت لتقتل الخوف في قلوبهم؟
سأوفر عليك المشقة .. لا
-
حسناً .. حسناً ..
أنت لا تستطيع أن تثبت ذلك و .. لن .. أقوم بذكر ما قلته قبل قليل في محضر التحقيق
لأنه .. حقيقة .. أنا في حيرة من أمري، إنني حتى لا أعلم إن كان هذا الأمر اتهاماً
للحكومة أم للرئيس أم انك تهذي أم .. هل لديك ارتباط بمنظمات خارجية؟
-
نعم .. الأجسام
الطائرة التي تحط في حقول وايومينغ
يهوي أحمد على وجهه بيمناه على وجه هشام
-
يبدو أنك تحب العنف
و تستجديه، سأكتب في التقرير إن لديك ميولاً ماسوخية تضعف قدرتك على اتخاذ
القرارات الصائبة
-
لا حاجة لكل هذا،
لا يوجد لدي ارتباط بأي منظمة خارجية أو أي دولة و أنا لا ألتقي بأحد أصلاً عدا
المسؤول عن رسالتي في الجامعة و أمي و قد توفيت أمي قبل أكثر من عام
-
بالطبع .. لا يوجد
منظمة تفكر بتجنيد شخص سخيف مثلك و رحمها الله قد استراحت منك .. أخبرني الآن ..
لم كنتَ واقفاً أمام القصر الرئاسي لأن صبري بدأ ينفذ
-
ولم عساه ينفذ؟
-
أنت لست بمحل توجيه
الأسئلة ثم إنك سخيف جداً و قضيتك أسخف منك و من الحرس الرئاسي و من إمبراطورك
الذي تهذي به .. قل لي هيا .. ما الذي دفعك لتهديد الرئيس .. بسرعة
-
هذا أصل المشكلة ..
هذه هي المشكلة .. هذه هي القضية
-
ماذا تقصد؟
تتغير ملامح هشام فجأة لتغدو حادة جداً و عيناه أصبح
بهما بريق غريب و أصابهما الجحوظ و اشتدت أوتار رقبته ناظراً لأحمد ..
-
أقصد بأن هذا لب
المشكلة، السخافة، في كل شيء، سخافة سياستنا، و سخافة طبعنا، و سخافة كل ما حولنا،
و تعظيمنا لهذه السخافة، بل و عيشنا حول هذه السخافة، بل إن السخافة غدت حياتنا،
تشاركنا الماء و الهواء و الطعام، نلهث خلف القشور التي تعظمونها أنتم بسياساتكم و
بسخافاتكم التي تغذون بها عقول البشر حتى غدو لا يعرفون الفرق بين المهم و السخيف،
جعلتم الناس يلهون بالبحث عن رزقهم و تأمين لقمتهم و تخيفونهم تارة بدمى معارضيكم
و تارة بالخوف من فقدان كسرة الخبز التي يضعونها في أفواه أطفالهم متناسين عمداً
أنكم كنتم دائماً اللاعب الرئيسي في كل شيء من تعظيم معارضة كانت بحجم البكتيريا
حتى غدت في أعين الناس غولاً و تضييع أموال الناس و أقواتهم بالمقامرة بها في حروب
و سياسات خاسرة لا أنتم استفدتم منها ولا أنتم الذين حافظتم على أموال الناس بها،
و لكن يا سيدي العزيز يخرج مسؤولي بلدك العزيز بين الفينة و الأخرى لتكريم حفنة من
الرخيصين الذين يسهمون بتخدير هذا الشعب على دورهم الممتاز في اتمام هذه العملية و
تطالعنا صحفكم بالتقارير التي تصيب الانسان بالعجز الجنسي لمجرد قراءة كمية العرب
التي تحملها و تجد في الصفحة المقابلة أخباراً تحمل صفقات بأرقام ما وردت حتى في
المناهج الدراسية، نعم يا سيدي .. هذه هي المشكلة .. أنكم لا تجدون في كل ذلك
مشكلة .. بل و لا تجدون حرجاً في مد يدكم الطويلة جداً على جيوب البشر .. بل و
تفعلون ذلك بضمير مرتاح و نفس مطمئنة .. و من ثم حين يقف شخص لا يعرفه أحد ولا يمت
بصلة لأي تيار ولا شيء و يحمل لافتة تحمل كلمات بسيطة لا تعني شيئاً و متحصناً
بذلك بحقه الدستوري في المطالبة و الاعتراض و رفع عقيرته، علماً بأنه لم يرفعها،
تقومون بإيداع هذا الشخص في مبنى الأمن السياسي و يقوم المختصون بالتعذيب في
جهازكم الموقر بالتحقيق معه لساعات طوال مستخدمين كل ما يحلو لهم من وسائل سحب
الاعتراف ... نعم يا سيدي .. هذه هي التهمة و القضية .. أنكم سخفاء.
ما إن نطق بكلمته الأخيرة حتى خر رأسه على الطاولة التي
أمامه .. لم يتحرك .. من دون أن يطلق شهقة أو أي شيء .. فقط .. هوى رأسه على
الطاولة بكل بساطة
تقدم منه أحمد .. هز كتفه فلم يلحظ أي استجابة .. وضع يده
على رقبته متحسساً وجود أي نبض فيها .. أدنى رأسه من رأس هشام .. أحس بصوت تنفس
ثقيل مكتوم .. سارع بطلب الاسعاف له كي ينقلوه للعيادة بأسرع وقت كي ينقذوا حياته
جرى كل شيء بسرعة .. لم يتخيلها أحمد .. ظل فاغراً فاه
.. لا يدري هل الذي حدث كان حقيقة أم ضرباً من الخيال .. هل يا ترى كان فعلاً يحقق
مع شخص ما؟ أم أنه متوهم و ما زال يعيش أحداث حلم بغيض لن يلبث أن يفيق منه؟
قطع هذه الأحداث ضربة عادل له على كتفه
-
أحمد .. هل ما زلت
هنا؟
-
آه .. حسناً .. إنه
ليس حلماً كما تخيلت .. ماذا تريد
-
اتصل المدير، إنه
يطلب التقرير على مكتبه بعد ساعة، يريد نتيجة التحقيق مع المجرم
-
أي مجرم؟
-
هشام؟ القصر
الرئاسي؟ الذي حققت معه اليوم؟
-
نعم نعم تذكرته،
سأقوم بالانتهاء من تقريره بعد قليل، هلا طلبت لي كوباً من القهوة و بعض الفطائر،
أشعر بالجوع يا عادل
-
لا عليك .. كانت
جلسة تحقيق طويلة .. سأذهب بنفسي لطلب الفطائر لكلينا و لكن عدني بأن ينتهي
التقرير اليوم فهذا العجوز النزق لا يكف عن ازعاجنا باتصالاته
-
بضع دقائق و سيكون
جاهزاً للتسليم
-
جيد، سأذهب الآن
يغادر عادل الغرفة و يغادر أحمد بعده لغرفته ليكمل
التقرير .. و لم يأخذ الأمر معه أكثر من دقائق معدودة كتب فيها
"المتهم يتفوه بجمل غير مترابطة و لا يمكن الجزم
بدوافع قيامه بذلك العمل، برجاء تحويله لمستشفى الأمراض العقلية ليخضع لفحص مكثف.
الرائد/ أحمد
سالم"